الكنيسة و الكون -2

   في المقال السابق تحدثنا عن رؤية الكتاب المقدس للإنسان ككاهن الخليقة و شفيعها أمام الله. دعونا الآن نتقدم في الحديث خطوة أخري لنلقي الضوء علي عمل الإنسان ككاهن. نجد في الكتاب المقدس نمطًا متكررًا عن هذا الإنسان المنوط به حفظ الكون و هذا النمط هو دخول الإنسان في عهد مع الله ثم كسر العهد الذي يتبعه دمار الكون و مآله إلي الأفول كنتيجة مباشرة للتغرب عن الله، ثم تحنن الله علي الكون و الإنسان و العودة ليطهرهما و يمدهما بالحياة. نري هذا النمط يبدأ بحياة آدم مع الله ثم نوح و الطوفان و يمتد بطول الكتاب المقدس في تعاملات الله مع شعبه علي مر التاريخ.

   كون الإنسان يحمل شقًا ترابيًا كعجينة مصطفاة من الأرض تحمل كل عناصرها و تكويناتها من مياه و معادن و غيرها. يجعل حال الإنسان بالضرورة ينعكس علي حال الأرض ككل فحال الأرض يتماهي مع حال الإنسان في الأفراح و الأتراح وهذا ما أثبتته علوم الطاقة[1]. فالإنسان كخميرة صغيرة يخمر العجين كله. و لعل الشاعر إيليا أبو ماضي كان مدركًا لهذا الواقع حين قال مخاطبًا الإنسان ‘‘كن جميلاً ... تري الوجود جميلا ’’.

   استلمت كنيسة العهد الجديد من العهد القديم  هذه النظرة الكونية و علاقة الإنسان ببيئته المحيطة. و تقدست نظرتها للمادة جدًا ــ علي عكس فلسفات أخري ــ خصوصًا حينما أتخذ ابن الله الوحيد و كلمته و حكمته من المادة رداء له و أعطاها ملء مجد لاهوته في اتحاد عجيب معجز، و عاش بيننا و قدس المادة فوهب المياه من رائحة لاهوته[2] . و بارك المأكل و المشرب في كل وجبة أكلها كعادة اليهود.  

   في إطار هذه النظرة أدركت الكنيسة أنها لا بد و أن تكون كاهنة و شفيعة عن العالم أمام الله فإذا و قفت لتسبح دعت الكون كله للتسبيح معها مستخدمة تسبحة الثلاث فتية في آتون النار و مزمور 148 كدعوة منها للخليقة لمشاركة التسبيح و التمتع بالحضرة الإلهية.

 و حينما تصلي الأواشي (الأفاشين) أمام الله تطلب عن الحيوانات و البهائم و المياه و الزروع و الأنهار و الهواء و كل شجرة مثمرة كما تطلب من أجل كل إنسان و عن كل إنسان و كل ذي حاجة من أدني مراتب الفقراء إلي حكام البلاد و مدبيرها. 

كما أنها أخذت علي عاتقها جمع الخليقة كلها ــ بما فيها الإنسان ــ في المسيح يسوع فقدمت له الماء و الزيت كواسطة لاستعلان عمله في إنسان جديد ينضم إلي جسده الحي من خلال المعمودية، و قدمت له الخبز و عصير العنب ليحولهما إلي جسده و دمه الكريمين الحياة النابعة من قدس الأقداس كفارة و تطهيرًا لكل من يقبل. و أوصت أولادها أن يكونوا نورًا للعالم و ملحًا للأرض إذ أنهم كهنة ملوكيّون و أمة مقدسة(1بط 2: 7) مهمتهم الأولي هي تمليح الأرض و نشر البركة فيها و جمع كل الخليقة في المسيح يسوع .

   لكن للأسف و بنظرة سريعة لنموذجنا المصري نجد أن ممارسة البشر عموما و المسيحيين خصوصا أصبحت تتسم بقدر كبير من اللامبالاة في التعامل مع الخليقة و ليس أدل علي ذلك من طفلة من أحبائي في مدارس الأحد حينما منعتها من إلقاء كيس الشيبسي في الشارع و قلت لها  ‘‘لما بيبقي معايا ورقة او كيس شيبسي بشيله و أرميه في البيت في سلة المهملات’’ فردت بتلقائية أذهلتني و قالت ‘‘ليه ما شارع بيتكو واسع !!!! ’’. 

إذا عمد الإنسان إلي إفساد بيئته و تناغمها أفلا يكون بذلك قد تعدي إرادة الله ؟ إن لوث نفسه ليس فقط باقتراف الخطايا بل بلامبالاته بصحته و صحة من حوله الا يكون هذا تعدي ؟ ليس ذلك فقط بل أنه يخطئ هدفه ككاهن عن الخليقة باهماله رفع يديه كذبيحة و شفاعة في هذا الكون المضطرب. لقد كان البابا بنديكت محقًا حين قال في خُطبة تنصيبه عام 2005:
The external deserts in the world are growing because the internal deserts have become so vast.’
   
 ‘‘تتنامي صحاري العالم،لأن صحاري قلوبنا أتسعت جدًا’’ 

   أدعوك اليوم يا صديقي أينما كنت لتقف مع الكنيسة وحدة واحدة تشفع في هذا الكون و هذه الأرض التي تحملك علي ظهرها، و أن تهتم بنفسك روحيًا و جسديًا، و تهتم ببيئتك و رفعة بلدك و تقدمها،أدعوك أن تبارك كل ما تلمسه يداك أو تخطو عليه قدماك أن تكون خميرة صغيرة تخمر عجينة هذا الكون ــــ الذي أنت جزء منه مُصطَفى ــــ أدعوك و أدعو نفسي قبلك أن نعكس مجد الله الذي لنا بأبنه في الروح القدس،نعكس هذا المجد لكي يتمجد الله في الخليقة أيضًا كما فينا.كن أنت قدس الأقداس الذي تجري منه أنهار ماء حياة للعالم (يو 7: 38) و كن علي ثقة أنك ستكون واسطة فداء و انعتاق الخليقة المتمخضة في آلامها (رو 8: 22).

   ربما يري البعض أن كلامي هو مجرد إنشاء فارغ لكنني أعلم أن الكثير ممن يعتنون بأطفالهم الصغار و المولودين حديثًا أو من يربّون الحيوانات الأليفة سيقدرون كلامي جيدًا فهم أناس شاركوا الله في الاعتناء بخليقته و عاشوا تناغمًا و تفاهمًا معها و لنا في القديسين أسوة [3].




[1]http://maaber.50megs.com/issue_july06/books_and_readings2.htm
http://the-light-group.ahlamontada.com/t106-topic

[2] القديس كيرلس الأورشليمي،العظة الثالثة علي الأسرار .
 
[3]رأينا قديسي الله و هم يتمتعون بعلاقات حميمة مع وحوش الأرض و عناصرها فها إيليا ينزل المطر و يمنعه وها البابا كيرلس السادس (مصري) يشرب القهوة في طاحونته مع ذئب !!! و القديس ساروفيم ساروفيسكي (روسي) يطعم صديقه الدب في أمان. و غيرهم من القديسين حظوا بمواقف مشابهة الكثير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس