متلازمة دون كيخوته - كارامازوف


متلازمة كيخوته – كارمازوف ليست مرضًا نفسيًا يمكن أن تجده في كتب الطب النفسي، إنما هو أسم من اختراعي أحاول به تلخيص واقعنا اليوم.   

الأخوة كارمازوف هي رواية للأديب الروسي ديستوفيسكي[1]. و كارامازوف هي الأسرة التي تتمحور حولها القصة ووهي  تتكون من أب داعر سكّير له ثلاثة من الأولاد من زوجتين مختلفتين و ولد رابع من علاقة غير شرعية بينه و بين أحد المعتوهات. و أري أن هذه الاسرة تمثل بكل ما فيها من علاقات مهترئة مجتمعنا الذي نعيش فيه الآن فكما قلت هناك الأب الداعر الفاسق الذي لا يستحي من التفاخر باثمه علنًا و هناك الابن ديميتري هو كما يقولون شبل من ظهر أسد تجمعه و والده عداوة كادت أن تصل إلي حد القتل بسبب إمراة لعوب تدعي جروشنكا
و هناك ايفان ذلك الابن الرصين الملحد أو لنقل هو يؤمن بوجود إله لكنه في نفس الوقت يؤمن باستقلاليته عن ذاك الإله و لا يريده كشخص فعال في حياته. وهناك أليوشا أصغر الابناء و هو شاب متدين يخضع لإرشاد راهب وقور يدعي زوسيما. و هناك سميردياكوف الابن غير الشرعي لفيدور وهو شخصية غير سوية علي المستوي العقلي و النفسي و يجد تسليته في جمع القطط الضالة ثم شنقها و دفنها و يقوم بقتل والده.
نجد في هذه الرواية تشريحًا دقيقًا لمجتمعنا علي كافة المستويات فهذه الشخصيات نقابلها يوميا سواء علي شاشات التلفاز أو في المؤسسات الدينية و ربما و أنتم تقرأون تقفز أسماء بعينها في أذهانكم. 


أما دون كيخوته فهو شخصية من إبداع ميجل دي سيرفانتيس[2]. و كيخوته هو رجل نحيف ناهز  الخميسن من العمر و يعيش في قرية دي لامنشا باسبانيا. و هو برجوازي[3] متوسط الحال لم يتزوج و كادت قرائته لكتب الفروسية أن تذهب بعقله إذ تصور نفسه فارس خرج ليدافع عن الحق و العدل  و ينصف المظلومين و اتخذ له درعا و سيفا و استطاع إقناع احد الفلاحين باتباعه و وعده بان يوليه احدي الجزر حين يفتح الله عليه. خاض كيخوته معركتين عظيمتين مع طواحين الهواء و قطيع الأغنام حيث تخيل كل منهم عدو يجب عليه مقاتلته و لكن دائمًا ما تنتهي المعركة بتكسير عظامه فتارة بسبب ارتطامه باحد اذرع طاحونة الهواء الذي رفعه عاليا ثم طرحه ارضا و أخري بسبب رعاة الأغنام الذي رشقوه بالحجارة و قد نال خادمه من الحب جانب. دون كيخوته حبس نفسه بين ثنايا الماضي التليد و اضاع حاضره في افتعال معارك وهمية مع شخصيات وهمية من نسج خياله.

و هنا آتي للرابطة التي تجمع أفراد عائلة كارامازوف بدون كيخوته: 

نشأ الاخوة كارامازوف في ظل فقدان المثل الأعلي و تفكك الأسرة و بالتالي ضياع الهوية و فقدان الانتماء و اختار كل منهم طريقًا ظن أنه الأفضل و راح كل منهم يفتعل معاركه الخاصة فديمتري يصارع أباه بغية في اللذة و التحرر من القيود الأخلاقية و القانونية. و إيفان افتعل معركة وهمية مع إله يراه إله قاس أو علي أقل تقدير غائب عما يحدث في عالمنا. أما الاخ الثالث فقد أتخذ التقرب إلي الله سبيلا فراح يسعي لهداية الناس و كانت معركته ضد قوي الشر في هذا العالم. و هناك الاخ الرابع غير الشرعي و غير السوي الذي يجد لذته في قتل القطط الضالة.
و باسقاط هذه النظرة علي واقعنا المعاصر، نجد أننا نعاني نفس مرض فقدان الهوية و تفكك عُري المجتمع فيذهب البعض منا لاهثًا خلف متعته الي آخر الشوط مفتعلا حربا وهمية ضد الاخلاق و القانون اللذين يقيدانه. و آخرون أختاروا الابتعاد عن الله إذ رأوا في الدين رجوعا للخلف و إرساء لدعائم التخلف فراحوا يحاربون الدين و المتدينين و الإله ذاته في سبيل مسعاهم للنهوض ببلادهم. و هناك من أتخذوا الدين دربا و حبسوا انفسهم وسط كتابات الآباء القديسين او ما تركه السلف الصالح و انطلقوا يعظون هذا و ينبحون علي هذا[4] و يفتعلون المعارك مع ذاك بتهمة الكفرأو الهرطقة أو ما شابه و هم يرون تقدم المجتمع و صلاح حاله في الرجوع إلي الدين (وفق رؤيتهم له). كل هؤلاء يتناحرون و يتقاتلون فكل منهم فقد هويته و انتماءه فراح يصطنع له هوية و انتماء يعيش من أجله و يدافع عنه علي طول الخط دون توقف لالتقاط  الأنفاس و التفكير بروية.
غاب عن كل هؤلاء أن الحل يبدأ من انفسهم كبشر فكلهم إنسان؛ لكن للأسف إنسانيتهم مشوهة برواسب التاريخ و فقدان المعني و الهدف من الحياة. و رسالتي إلي هؤلاء أن معركتكم ليست في مُثلكم أو مبادئكم، إنما المعركة هي الإنسان الضعيف الضائع الذي يواجه هذه الدنيا عاريًا بمفرده. فيا من تنادون بالرجوع للدين قدموا لهؤلاء إله حقيقي متفهم لشكواهم و مشارك لأنينهم إلهًا قديرًا و مع ذلك يرتضي أن ينزل من عليائه مهرولاً نحو الإنسان لينتشله مما هو فيه، لا ذلك الإله المنتقم الجبار الذي يتوعدهم جهنم و بئس المصير. و يا ايها المتغاضون عن الإله أمعنوا النظر جيدًا فحتي لو لم تريدوا إلها فليكن طريقكم سعادة الإنسان و هذا لا يأتي بالصراع مع الدين بل باكتشاف أحلي ما في الدين و أحلي ما في قيمكم و تقديمه لهذه الإنسانية المعذبة لتجتذبوها مما هي فيه الحل يكون يترككم لمعارككم الوهمية و النزول إلي عالم الواقع حيث المشرد و الفقير و المغيب فاشبعوا هذا و أعينوا ذاك و استردوا ذاك من غفلته. أما انتم أيها الساعون للتحرر من كل قيد فعلموا الناس اولا كيف يحترمون انفسهم و كيف يحترمون الآخر و حينها لن يكون هناك داع للقيود فالإنسان سيكون قيد نفسه. معركتنا هي أن نبني إنساننا لا نحبسه في قيد الماضي بل نقدم له الحاضر معطرا بخبرة الماضي، لا نحرره من كل قيوده فينطلق مسعورا ليدمر ما حوله بل نهذبه أولا و ندربه كي يعيش حياة سوية، أما أنتم يا رفضتم الإله علمونا القيم لكن لا تطلبوا منا أن نواجه العالم بمفردنا و الإله يقرع ابواب القلوب




حنانيكم أيها المتقاتلون إنه الإنسان !!!

                  




[1] من الجدير بالذكر ان الالم كان العامل الاكبر الذي شكل فكر ديستوفيسكي أثناء مسيرة حياته فقد تم سجنه لمدة 8 أعوام في سيبيريا إثر اتهامه بالتمرد علي القيصر وذلك بعد فترة وجيزة من نجاح روايته الاولي (المساكين) و التي ساهمت في إلماع نجمه في روسيا . و في خلال هذه الاعوام الثمانية التي قضاها مسجونًا عاشر ادني طبقات المجتمع من المجرمين و السفلة. لقد لقنته الحياة درسًا قاسيًا ظهر بقوة من خلال روايته الأخوة كارامازوف. و من أجل فهم اعممق لشخصية ديستوفيسكي و رواية الاخوة كارمازوف يمكنكم مراجعة كتاب ( الأخوة كارامازوف لديستوفيسكي) وهو من تأليف علي أدهم و اصدار مكتبة الاسرة،1996 ضمن سلسلة تراث الإنسانية.
[2] http://www.mafhoum.com/press4/127C95.htm
[3] للمزيد عن البرجوازية أنظر http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B1%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A9
[4] أرجو قراءة هذه المقالات علي مدونة الفلسفة الإلهية بعنوان النباح المقدس

تعليقات

  1. واقعية جدا وتلخص مانعانيه من "انانية" وليدة لضيق افق و عقيدة "نسبية" مغلقة وحب سلطة و شهوة تسلط وكبرياء ...احييك

    romany lotfy

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس