تأله الإنسان ... المعنى الكتابي



تعتبر عقيدة التأله Theosis في التراث الأرثوذكسي هي الغاية أو الهدف الذي من أجله جاء الأقنوم الثاني من الثالوث و تجسد في عالمنا و بالتالي هي غاية حياة الإنسان فابن الله ‘‘تأنس لكي يؤلهنا نحن!’’. (أثناسيوس الرسولي؛ تجسد الكلمة54: 3). إلا أن لفظة (تأله) غالبًا ما تثير حفيظة من يسمعها لأول مرة فيتبادر إلى ذهنه أن تأله الإنسان في الفكر الأرثوذكسي يتساوى مع مفهوم تأليه الأباطرة في العالم اليوناني و الروماني أي ارتقاء الإنسان إلى مصاف الإله في الخلق و العبادة و اللامحدودية ..... إلخ أي الترقي إلى الألوهة المطلقة، و هو المفهوم الذي عارضه الكتاب المقدس بوضوح و حكم على من يتبناه بالهلاك مثل ملك بابل (أشعياه14) و ملك صور (حزقيال28). لكن عقيدة التأله بمفهومها الأرثوذكسي ليست وليدة الاقتباس من العالم اليوناني الروماني بل لها جذور كتابية في العهدين القديم و الجديد على السواء.   

لقد كانت لفظة (إيلوهيم = إله) ليست وصفًا حصريًا لخالق السماوات و الأرض مثلما دعاه سفر التكوين (تكوين1: 1)، بل كانت أيضًا تستخدم لوصف الملائكة (مزمور8: 5) و ملوك إسرائيل فالمزمور 45 الذي كان يُرتَّل يوم عرس الملك ينادي فيه المرتل الملك قائلاً: (كُرْسِيُّكَ يَا {اَللهُ /إيلوهيم} إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ.) (مزمور45: 6) و الكلمة الله هنا ليس المقصود بها الخالق و إنما الملك و الدليل أن المزمور يكمل (أحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِدُهْنِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ.) (مزمور45: 7)، إذًا دعونا معًا نلقي الضوء على مفهوم أن يكون الملك إيلوهيم في الكتاب المقدس.  

 كانت المسحة الإلهية بالزيت المقدس في العهد القديم حِكرًا على الكهنة و الملوك و الأنبياء، و بهذا يحل على الممسوح روح الرب و لهذه المسحة عدة نتائج تعالوا معًا لنعرفها:

نجد أول هذه الملامح واضحة في تنصيب شاول ملكًا على إسرائيل فقد قال له صموئيل (بَعْدَ ذلِكَ تَأْتِي إِلَى جِبْعَةِ اللهِ حَيْثُ أَنْصَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَيَكُونُ عِنْدَ مَجِيئِكَ إِلَى هُنَاكَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّكَ تُصَادِفُ زُمْرَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَازِلِينَ مِنَ الْمُرْتَفَعَةِ وَأَمَامَهُمْ رَبَابٌ وَدُفٌّ وناي وعود وهم يتنبأون.فَيَحِلُّ عَلَيْكَ رُوحُ الرَّبِّ فَتَتَنَبَّأُ مَعَهُمْ وَتَتَحَوَّلُ إِلَى رَجُل آخَرَ. وَإِذَا أَتَتْ هذِهِ الآيَاتُ عَلَيْكَ، فَافْعَلْ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ، لأَنَّ اللهَ مَعَكَ ....... وَكَانَ عِنْدَمَا أَدَارَ كَتِفَهُ لِكَيْ يَذْهَبَ مِنْ عِنْدِ صَمُوئِيلَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ قَلْبًا آخَرَ، وَأَتَتْ جَمِيعُ هذِهِ الآيَاتِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ) (صموئيل الأول10: 4-7، 9).
إذًا فمسحة الروح تغير القلب القديم بآخر جديد و مختلف و تحول كيان الملك إلى كيان آخر جديد و تعطيه كشفًا للمستقبليات (النبوة). ليس هذا فقط بل هي تعطي الملك موهبة الحكمة و التمييز بين الخير و الشر كالله و ملائكته كما كلمت المرأة التقوعية داود قائلة : (لأَنَّهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّمَا هُوَ كَمَلاَكِ اللهِ لِفَهْمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،) (صموئيل الثاني14: 17). و لقد طلب سليمان نفس الأمر حينما نُصِّب ملكًا (فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ الْعَظِيمِ هذَا؟) (ملوك اول3: 9).
و نعود لمزمور 45 مرة أخرى لنجد المرتل يقول للملك (أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ.) (مزمور45: 2). و انسكاب النعمة على الشفة دلالة على أن كلمات الملك تتميز بالحكمة و السداد، أو كما يعلق رابي راشي أن كلام الملك هو بحسب الشريعة[1].
و في (مزمور2: 7) نجد الملك يقول عن الله (قَالَ لِي: "‍أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.) فالملك يأخذ بنوية الله يوم مسحه؛ لأنه يأخذ الروح القدس. و لقب ابن الله أو ابناء الله كان أيضًا أحد ألقاب الملائكة (أيوب1: 6) كما كان أيضًا لقب ابناء اسرائيل عموما.
و نجد تتويجًا جامعًا لمعنى أن يكون الملك إلهًا في (أشعياه9: 6) (أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا ‍أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.) و حينما تُرجمت  الآية للسبعينية نقلت لنا الفهم العبراني القابع خلف النص و هو (يولد لنا ولد و نعطى ابنا رئاسته على كتفه، و يدعى اسمه ملاك المشورة العليا) . إن الملك هنا يوصف بأوصاف ملاك الله مرة أخرى (كما وصفت المرأة داود).

باختصار فإن الملك حينما يصبح إيلوهيم لا يعلو ليتساوى مع الله في القدر و المكانة بل يصبح كملاك الله أي احد اعضاء البلاط السماوي بل و ربما الأعلى فيه فهو يتميز بالحكمة و العلم الإلهي مكشوف امامه و كيانه يتجدد و يصبح مختلفًا عما كان ذي قبل و يأخذ القدرة على الرعاية  و التوجيه و القيادة و جلب السلام على الأرض و ينعم بعلاقة الأبوة و البنوة مع الله.

إذًا هل التأله بهذه المفاهيم قد حفظه لنا العهد الجديد ؟ تعالوا لنعرف
1-      البنوة :

نجد في (مرقس1: 11) شهادة السماء عن ان الملك الممسوح هو ابن الله: حيث يرى الرب يسوع المسيح الروح القدس نازلاً عليه و يسمع صوت الآب يدعوه  (أنْتَ ابنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ) و هي العطية التي امتدت بعد ذلك لتشمل كل المؤمنين المسيحيين الذين سكنهم الروح القدس (بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ:"يَا ‍أَبَا الآبُ".) (رومية5: 15).

2-      التجديد :
و الروح القدس كما يشير بولس الرسول يعطي تجديدًا كيانيًا للإنسان (لكِنِ اغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبرُوحِ إِلهِنَا.) (كورينثوس الأولى6: 11). و أيضًا (بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ­ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ ا‍لرُّو‍حِ الْقُدُسِ) (تيطس 3: 5).

3-      النبوة و علم السماويات :
نجد في سفر أعمال الرسل شهادة لبطرس الرسول عن حلول الروح القدس في يوم الخمسين حيث يقول (بَلْ هَذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيِّ. يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً. وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ.) (أعمال الرسل2: 16- 18). و غني عن التعريف أن موهبة النبوة كانت من أشهر المواهب في الكنيسة الأولى و تم ذكرها في عدة مواضع من العهد الجديد. 

 لكن الجزء الأوسع من العهد الجديد و الذي حافظ على مفهوم التأله كما تعرفه العقلية اليهودية كان هو الأدب اليوحناوي فأول إشارة صريحة لمفهوم التأله نجده على لسان الرب يسوع المسيح نفسه (أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ) (يوحنا10: 34-35) لقد استخدم الرب يسوع التفسير السائد لنص (مزمور82: 6) الذي يتكلم عن قضاة بني إسرائيل الممسوحين بالروح القدس أيضًا (عدد11: 17) فهم ـ إلى جانب مسحة الروح ـ   آلهة لأنهم يقضون بشريعة الله . و هنا يعلن الرب نفسه أن هؤلاء الذين يحملون شريعة الرب و ممسوحون بالروح هم آلهة (قابل مع كورنثوس الثانية3: 3).

ثم نجد الأمر بأكثر وضوح في (يوحنا الاولى 2: 20) (وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ ‍مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ.) في معرض الحديث عن التمييز بين الرسل الكذبة و الرسل الحق من عند الله، فالرسول هنا يؤكد أن مسحة الروح نفسها تعلم المؤمن كل شيء بناء على وعد الرب (يوحنا14: 26) . و تمكنه من التمييز بين الصالح و الطالح و من هو من الله و من ليس كذلك و يعود و يؤكد مرة أخرى (وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْ‍مَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هذِهِ الْ‍مَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَق وَلَيْسَتْ كَذِبًا. كَمَا علمتكم تثبتون فيه.) (يوحنا الأولى2: 27).

إذًا المسيحي الذي صار مسكنًا لروح الله صار علم السماء مكشوفًا أمامه و صار حكيمًا يميز بين الصالح و الطالح و يعرف مراد الله و يتعلم من روحه.
و لهذا أظن أن ما ذكره بطرس الرسول (كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ،اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ) (بطرس الثانية1: 3- 4)؛ 
هو تلخيص لمعنى أن يكون الإنسان إلهًا و أن يهرب من الفساد و الشهوة البطالة أي أن يكون شريكا بالروح القدس و معرفة الله في ما لا يمتلكه إلا الله وحده أي الحكمة و القداسة و العلم و البنوة من خلال الاتحاد بالطبيعة الإلهية نفسها.

الخلاصة : بعد هذا المسح السريع لعدد من نصوص الكتاب المقدس في العهدين يتضح لنا أن الإنسان المتأله هو :
·        الذي مسحه الله بروحه القدوس
·        و أعطاه التبني
·        و أعطاه الحكمة و التمييز و العلم السماوي
·        و أعطاه القداسة و معرفة كلمات الله و شريعته
·        و أعطاه موهبة الرعاية و القيادة و التوجيه

إذًا يا عزيزي القاريء  أنت يوم أن تعمدت في الكنيسة صرت و أخذت مسحة الروح القدس سواء بدهن الميرون أو وضع اليد فأنت صرت (إيلوهيم) أي صرت متألهًا بالروح القدس و عليك دور يجب أن تؤديه في هذا الكون أن ترعى و توجه من ائتمنك الله عليهم و أن تنفع بعلمك من حولك و أن تتمسك بشريعة الله و كلماته كابن بار لابيك السماوي، فحافظ على وزنتك كي لا تنزع منك.







[1] http://www.chabad.org/library/bible_cdo/aid/16266#showrashi=true

تعليقات

  1. القديس غريغوريوس بالاماس :
    يسوع المسيح له المجد قنم الطبيعه البشريه فى أقنومه الالهى . والشخص المسيحى يقنم النعمه الالهيه فى شخصه البشرى .فيصير مؤلفا من النعمه الالهيه وروحه وجسده .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس