مــزامــيـر عــابـــد 3 (تلويحات صوفية)
أيا خيمة المحبوب ضربت بخيمتي
صوب الحجاب و صوب الكرسي الأعظمِ
فمتي ظَعنتِ[1]
خرجت خلفكِ راحلاً
و متى قَررتِ فحلُكِ مضرب الخيمٍ
و سهرت مشتاقًا لطلة القدوس عطفًا
أيا قِبلة النفس الغريبة بالنوى[2]
و الجنة الريا لكل عطشانٍ ظمي
أهفو إليكِ و قد تجرد عاذلي
يفحُ غدرًا كالثعبان الأرقمِ[5]
يحمل عليكِ بكل سيفٍ قاطعٍ
يرمي عليكِ بكل ضرغامٍ كمي[6]
و أنا هنا رهين ذنبي و الخطا
و الخوف يأسرني و الرعب محطمي
و ليس لي إلا دموعي مطية
تجري حنينًا كالمحبِ المغرمِ
و كأنها كالعاديات تجشمت حرب العِدى
أو كالصقورِ أو النسورِ الحُوَّمِ
يرتعن في خدي و خدي مثخنٌ
و الجسم في وهنً و جرحه مؤلمي
فركبتها كالفارس المغوار ينوي رمية
من قوسه في نحر ليثٍ ضيغمِ
و بها وصلت لقدس أقداس الحبيب
المُبتغَى في يوم قيظٍ يحتمي
علّي أنالُ جديد عهدٍ خَتَمَه
قسمُ العزيز و أكرم به من مُقسِمِ
وقفت بساحة الأنوار مُحتَشِمًا و مُمتشِقًا
حُسام الروح و نار الحب تضطرمِ
و مثلت بين يدي الحقٍ مُرتَعِشًا
أغض الطرف من خجل و من ندمِ
ألملم نفسي التي صارت بُدَدًا
و سارت بلا هَديٍ تحوم في ظُلَمِ
و مَن لي برأب الصدع حين أقتربُ
و جرح الإثم بقلبي غير مُلتَئِمِ
رُمت الذي به الدخول مُحتَّمٌ
لحضن الله أبي الأنوار و النِعَمِ
يا ذا الشفيع البَرَ إذا توسلتُ
بكَ جُد، يا أهل الجود و الكَرَمِ
فما عهدت فيك الـ ‘‘لا’’ لا أبدًا
و ما عهدت سوى الجواب بالنَعَمِ
لثمت بجبهتي تراب الأرض في أسفٍ
فارفع رأسي ذا المدفون في الرَغَمِ[7]
و أنَّى لساكن البطحاء بالقُربى
إذا لم يمن بالوصل ساكن القممِ
إذا لم يعرفك القلب حين شبابه
فكيف به في حين الشَيب و الهَرَمِ
و لئِن حكمتَ فأنت العدلُ إن تَقضي
و لئِن عفوتَ فكرمٌ أيمَا كَرَمِ
أرضى بها أحكامٌ منك صادقةٌ
حين الحِجاج و حين القطع بالحُكمِ
فاغسل ضميري بماءِ الروحِ من قَذَرٍ
يسبح فؤادي في المياهِ الزمزَم[11]
و لحن القلب إذ يُعزَف على وجعي
يشوق الروحَ أن تهفو على النغمِ
فأقبلُ لفحة الأدب الجميل تبسُمًا
قوّم حنايا النفس حُبًّا فيك تستَقٍمَ
و اجمع شتَتَ القلب الكليم[8]
تفضُّلاً
و لا تتركهُ منتثرًا على الَوضَمِ[12]
و اختِم حواسَ الجسمِ و النفسِ معًا
و اطرد نسيم الشرِّ من قربٍ و من بُعدٍ
و ابعد شياطين المجون الفاجر الأثِمِ
و أملك جماع القلب و العقل معًا
بروح القدِسِ و الإشراقِ و الشَمَمَ
و اسكن بهيكلك الطَهور مجُلسًا مَلٍكًا
و اشرق بمجدك الأسنى على الآدِم[15]
غًيِّر بحضرتك المهيبة عُمري موجهًا
فيَّ الدواخل كما الأفعالِ و الشِيّمِ
و دفّةُ القلبِ الرهين تركتها طوعًا
حين خضبتَ يديَ جسدِك بالدمِ
ناولتني خبز المحبةِ سائغًا حسنًا
حلو المذاق شهيّ الرسمِ و الطعمِ
و حملتني في جسدك الطعين تمَخُّضًا
ثبتّني كغصن الزيتون الطيبِ الدَسِمِ
و حويتني فيه لمّا انتفضت غالبًا
وجع الموات حسيرِ الوجهِ من جَهَمِ
حجزتَ عنى طُرُق المنايا و مِثلُها
يُفضي إلى الحتفِ الأخير جُهَنّمِ
و رويتني بعصيرِ خمرِ دمِ الفدا
و سقيتني كأسَ سلافٍ[9]
كُلُّه نورٌ
كشفت لي سر الألوهة لامعًا وَضِحًا
سِرُّ الدهور بقلبِ الآب ينكتِمِ
سرُّ الصليب و سرُّ الحبِ منذبحًا
جُرحُ الأحبةِ عندك غيرُ ذي ألمِ
لهفي على الصبِّ[10]
الذي نزل الحمى
فردًا يقارع المنايا بثغره المُتَبسِّمِ
دخل عرين الأُسدِ مزمجرًا فتحًا
فأتى على عرش العرين المُحطَمِ
هَرَبَت ليوث[20]
الموت لما توضحت
منه الملامح في اللباس الأيهَمِ[26]
ظهرتَ بجسم آدم خاطرًا طربًا
متلحفًا نور اللاهوت الباهر المتعظّمِ
فعلم إبليس اللعين بأنه عبثًا
تعب الليالي بدهره المتصرِّمِ[27]
و بأنّ أحشاء الجحيم تمخضت وجعًا
و تقيأت تلك النفوس العاثرات بمُظلِمِ
فتَنَسّمَت عبق الطهارة عطرًا فائحًا
و تبدلت حال الكآبة بالنشيد الأكرمِ
يا من نشلت النازلين إلى الثرى
من حمأة الموت العَبوسِ الأدلَمِ[28]
ارثِ لحالي و انتشلني من الرَدَى[21]
و أقبل إليك نَصوح[22]
توبة خاطيءٍ
قضى الحياة تنزهًا و القلبُ في شَبْمِ[31]
يا من دخلت بيت المقدسِ[23]
تمتطي
صهوة الآتانِ لا صهوة جوادٍ أدهَمِ[32]
و فتحت روما بالمحبةِ سيفٍ ناجعٍ[24]
لا فتح قيصر ذي السيوف صَماصِمِ[33]
فافتح مغاليق الفؤادِ المُقفلاتِ تحسُرًا
على ضياع العُمر و القلب في صَمَمِ
و اغفر جبال ذنوب عبدٍ مارقٍ
ينوي المآب لدوحِ الحبِ الحَالِمِ
و لأمسكنّ حَبل الوصال بقوةٍ
و أعُضُّ عليه نواجذي و أوازمي[34]
يا من تحل المربوطين تحنُنًا
أحلِل شَديد رباط الظُلمِ و الظَلِمِ[35]
و اطلِق أسير السِجن و النيران مُلتهبة
و اخلع نيوب الموت الشاربات دمي
و اشفِ جراحات المَنونِ[25]
إذا غَشَت
منّي الظواهرَ و البواطنَ و القلبَ العَمي
رطِّب جراح الجسد و النفسِ معًا
بزيتِ الحبِ و خمرِ الولَهِ مُهَيّمي
و صلاة منكِ نحو الآب تُرجعُني
غضًا صحيحًا كما ولدتني أمّي
و بعينِ عطفك شَدد عودي المُنحني
و أقم عماد البيتِ الساقطِ الهَرِمِ
و امنحني منك تقربًا و تعلُقًا فضلاً
بزواج نفسي إليك رغم اللائمِ
و اجذبني نحوك كالعروس مُزيَنًا
بلا غَضَن و لا دَنَسٍ و لا حُرَمِ
و اسمع دقات قلبي مَشوقةً عشقًا
و احضن شجون العاشقِ المُتَلَوّمِ[38]
و ابذر كلام الروح معسولاً و مقبولاً
يثمر كما دُرّ الحياة المُنظَمِ
يَجتلِبُ في العقل النشيط تأملاً
ألا و انفخ نسيم الروح ملتهبًا
فأتلقاه ملهوفًا إذ فتحتُ فمي
و ألبسني خلعة النور الجميل بياضها
ثَوب المحاسنِ بالصلبان يُختَتَمِ
و طيلسان المُلك مزدانًا و مُلتمعًا
بديع الصُنعِ مِن دُبُرٍ و مِن أمَمِ
و دِرعُ البِرِ على صدري يزينُهُ
يَصون القلبَ مِن سِنَةٍ و مِن نَومِ
و شدد مِعصَميَّ بكُميّ الحيا جودًا
فلا احتاج لزِين الحِلي و العِصَمِ
و بَرنِسني[36]
رداء المُلكِ يتهادى و يتدلى
على ظهري كنهرٍ رائقٍ حَلِمِ
خلعتُ بين يديك نعليّ كِبرِي فألــــبسني
نعليّ البُشرى و الاستعداد للسَلمِ
أيا القدوس الساكن الأنوار لا
يدنو إليك سوى الأطهار من إثمِ
يا مَن تَعنُّ لك الوجوه مـهابــةً
و الركبُ رُكّعُ ساجداتُ ترتمي
ولك الملائكُ قانـتــون تحيرًا
مِن ذا الجمال الفائق المـُتَـقـدّم
لا تعرضنّ عن الدعاء إذا بدت
مني إليك ضراعةٌ بتَـتَـيّمِ
قد دِنتُ لك بدين الحب و العشقِ
و بدين العشق يزول الخوف و يَحرُمِ
يا من رفعت مقامي عندك صائرًا
كالابنِ قُربًا لا كما عبدٍ أجيرٍ تيّمِ[41]
فما عبدتك ذا خوفٍ و لا طمعٍ
ولا شُغِلتُ بكسبٍ منكَ أو غُرمِ
و لا طلبت مقامي جنةَ العدنِ[37]
أو راعني هجيرُ النارِ ذي الغَرَمِ[42]
فما طلبتك إلا لأنـك سيـــدي
أهلٌ لـذاك بلا شـرٍ و لا قَـنَــمِ[43]
فأنت الكائن لا سواك و لا شريك
و فيك أنال حق وجودي و تأقنمي[44]
لوحة لماجدة الحوراني مستوحاة من الرقص الصوفي للطريقة المولوية |
[1] رحلتِ
[2] البُعد
[3] النبات اليابس
[4] أصل الماء في
البئر
[5] أخبث الحيّات
[6] الشجاع المقدام
[7] هو الرغام أي
التراب
[8] الجريح
[9] الخمر الثقيل
[10] المحِب
[11] الكثيرة
[12] ما يوضع عليه
اللحم من خشب أو حصير، و يقال للشخص أنه لحم على وضم كناية عن تيهه و ضياعه .
[13] علامة
[14] الزيت الدَسٍم
كناية عن الميرون المقدس
[15] التراب أي الإنسان
و أعني نفسي
[16] عصارة
[17] الرغَد
[18] أسود
[19] الغبار
[20] ليوث جمع ليث و هو
الأسد
[21] الموت
[22] كلمة من أصل
أثيوبي و معناها ‘‘خالصة لا رجعة فيها’’ و قد درجت بهذا المعنى على الألسنة.
[23] أورشليم و سُميت
كذلك لأن بها مركز العبادة اليهودي أي الهيكل.
[24] شافيًا
[25] الموت
[26] له عدة معاني منها
الضياء و هو المقصود هنا
[27] الفائت
[28] الشديد السواد
[29] الرفيع المُحدَد
[30] القاطع
[31] برود و عدم حس
[32] الأسود
[33] جمع صمصام أي ماضي
و قاطع و المقصود قاتل
[34] النواجذ آخر أضراس
الحنك و الأوازم هي الأنياب و البيت كناية عن التمسك الشديد بالأمر.
[35] الظَلِم بكسر
اللام أي الظالم و هو الشيطان.
[36] بَرنَس فُلان أي
ألبسه البًرنُس.
[37] الخير الوفير
[38] المنتظر قضاء
حاجته
[39] جمع قابِلة
[40] حياء و المقصود
مهابة
[41] ذليل
[42] الشر الشديد و
الهلاك المُلح و هو أحد أوصاف عذاب النار في القرآن (الفرقان 65)
[43] فساد و تغير و
اتساخ
[44] الأقنوم كلمة
سريانية معناها الشخص في حقيقته و تفرده و التأقنم في علم اللاهوت هو حصول الفرد
على كينونته و وجوده كما يجب أن يكون
تعليقات
إرسال تعليق