خواطر في المسيحية : 1- غريزة البقاء



  تكمن أهمية المسيحية في أنها قدمت الحل لمعضلة الإنسان الأولى التي تحرك كل غرائزه ألا و هي " السعي للبقاء "
بدأت الحكاية مع أول تحذير اعطاه الله للإنسان لا تأكل مش شجرة (معرفة الخير و الشر)[1].
 ما أراده الله هو ماعبر عنه السفر رمزيا بالأكل من ثمرة محرمة ، لكن المقصود من وراء النص هو تحذير الإنسان من السعي لامتلاك الحكمة المطلوبة ليدير شئونه و شئون الكون[2] مُنفردا فاصلا نفسه عن التعليم و المعية الإلهية (شجرة الحياة) ،  ظانًا أنه بامتلاكه المعرفة و التمييز قد أصبح قادرًا على التخلي عن تبعيته لله و اعتماده بالكلية على نفسه في إدارة الأمور.
رفض الإنسان ذلك و اختار نفسه دون الله و بالتالي في اختياره لنفسه اختار الموت الذي هو اصل طبيعته المخلوقة التي تعتمد على مصدر خارجي (هو الله) .
و هنا عادت غريزة البقاء لتسيطر مرة أخرى على الساحة فوجدنا الإنسان يبني الحضارة و المدن ، يصنع الادوية لمواجهة المرض، يُبدِع فنًا و أدبًا و فكرًا ، يستشرف المستقبل ، و يسعى لتوطيد جذوره في الأرض أمور كلها وجِدت لتصب في صالح الخير و الحياة للجميع.
و بالمصاحبة مع هذا وجدنا الإنسان يبتدع الشرور ؛ يقتل ، يكذب ، يسرق ، يشبع شهواته و رغباته، يتزوج كي ينجب اطفالا يحملون اسمه و ذكره للأبد، بل و يستعمل الدين نفسه كوسيلة للتقرب من الله مصدر حياته مرة اخرى متخذًا من الدين ستارا لنوال حياة ابدية ، بمبادرته و مجهوده الشخصي سعى لرأب الصدع بينه و بين الله و بذلك جعل الدين انتفاعًا و اشباعًا لتلك الغريزة الأولى أي البقاء.  

هنا جاءت المسيحية لتروي ذلك العطش معيدة للإنسان الخيار مرة أخرى و ما كان عليه سوى أن يقبل  المبادرة الإلهية في شخص يسوع المسيح و أن يختار الحياة، حياة الله نفسه. إذ ارتكزت المسيحية على ثلاثة أعمدة رئيسية في قيامها:

أولها السلوك وفقًا لمنهج رأسها الإلهي يسوع المسيح،
 و ثانيها الاتحاد بذلك الذي هو الرأس أي يسوع المسيح من خلال الإفخارستيا (الاتحاد بجسد و دم/ حياة/ شخص) يسوع،
 و ثالثها اقتبال الروح القدس (روح الله) ليكون ساكنًا في الجسد و النفس و الروح و محركًا لدقائق الحياة و ثوانيها.

ما قدمته المسيحية لم يكن شعارات فارغة تجذب البسطاء و تلهب مخيلاتهم، بل فعلًا تحققت باكورة ثماره في التاريخ الإنساني بقيامة يسوع منتصرًا على الظلم و الموت اللذين رزح تحتهما طيلة 33 سنة من حياته، و مرتفعًا إلى مجد لا يُدانى قد أعطي للمؤمنين به في الافخارستيا و الروح القدس.

حقيقة تلك الحياة الممتدة هي التي دفعت يسوع مدة خدمته على الأرض أن يدعو لمقاومة الشر بالخير، الإساءة بالإحسان، أن يقاوم الطبقية المجتمعية البغيضة و أن يجمع على مائدته الرجال و النساء، الغني و الفقير، الخاطيء و البار، الإقطاعي و الأجير، و أن ينادي بمجتمع المساواة حيث العدالة تظلل الجميع.

 تلك الحياة الجديدة هي التي دفعته لمقاومة تسلط رجال الدين و السياسة و الاقتصاد على شعب مُعدم فقير لا يجد حتى قوت يومه، بل الأمل في تلك الحياة الجديدة نفسها هو الذي قاده أن يموت شهيدًا على يد معارضيه ليقوم حيًا منتصرًا بروح أبيه الذي أقامه من الأموات.

و يسوع اليوم يدعوك أن تختار حياته، لقد قدم يسوع  لك، و ما زال يقدم تلك الإمكانية أي الانتصار على غريزة البقاء التي تحركك نفسها، لأنك إن قبلته فأنت و لا شك باقٍ، بدأت هنا و لكنك لن تنتهي، يعرض عليك يسوع أن تعيش شخصيًا منهج العدالة على الأرض و لا يهمك حتى ذلك العدو الضعيف المدعو موتًا لأنك في يسوع أنتصرت عليه مقدمًا.
يعرض عليك يسوع أن تحيا الحرية بصدق و قوة و شجاعة، أن تمخر عباب الدنيا و أن تغامر  بفقدان حياتك كي تربحها.  أن تكون أنت التغيير الذي تحلم به في العالم و أن تنطلق لبناء الدنيا لا يعيقك خوف أو عبودية للموت؛ فأنت باقٍ بقاء يسوع المسيح نفسه في الله الآب و الروح القدس.     



[1]  الخير و الشر هما معا لفظتين جامعتين لكل أمور الدنيا حلوها و مُرها كما نقول السماء و الارض دلالة على كل الخليقة


[2] راجع صموئيل الثاني14: 17، ملوك أول3: 9، اشعياء7: 15- 16، أرميا4: 22 ، سيراخ17: 1- 10، سيراخ 39: 1- 5، عاموس5: 14- 15

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس