الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية
ملابسات السقوط و
نتائجه :
حينما خلق الله الإنسان أعطاه وصية كضمان و عهد لاستمرار
العلاقة بينهما، لكن الإنسان اختار أن
يرفض الوصية فجلب على نفسه عبوديته للموت و الفساد و حكمًا إلهيًا يذكر الإنسان
دائمًا بخطئه و يدعوه إلى التوبة . التزمت التسبحة في هذه النقطة بالرواية
الكتابية المذكورة في الأصحاحات الأولى من سفر التكوين دون محاولة لشرح. و تصور
التسبحة خطأ الإنسانية في رفض وصية الله كعمل مشترك بين آدم وحواء له نتائج كارثية
ليس على البشر فقط بل وعلى كل الخليقة أي ان السقوط يحمل بُعدًا كونيًا.
‘‘بمشورة حواء
أمّنا الأولى أكل آدم من ثمرة الشجرة. فجاء علي جنسنا وكل الخليقة سلطان الموت والفساد.’’ (لبش ثيوطوكية
الأثنين)
ليس ذلك فقط بل حكم الرب[1]
على آدم بالحزن و المشقة ‘‘بينما آدم في حزنه’’
(ثيوطوكية الأثنين : القطعة الأولى)،وحكم عليه أن يعود للتراب الذي خرج منه
أولاً ‘‘يا آدم أنت تراب و إلى تراب
تعود’’ (ثيوطوكية الأثنين: القطعة السابعة). ليس آدم وحده الذي نال حكمًا بل
حواء ايضًا فقد نالت حكما بالالم يذكرها بخطأها ‘‘حواء التي اغرتها الحية. حُكِم عليها من
قبل الرب. أن بالكثرة أكثر أحزانك و تنهداتك’’ (ثيوطوكية الأثنين: القطعة
الثانية).و كما يوضح الكتاب المقدس أن الله وعَد الإنسان بالخلاص في يوم من الايام
و طُرِد آدم وحواء من الفردوس جارين على الكون كله تبعات خطأهما.
الدور الإلهي الثالوثي في
الخلاص :
كانت الكنيسة واعية منذ
البدء أن الخلاص
لم يكن عملاً منفردًا قام به أحد الأقانيم الإلهية بل هو عمل كامل بكمال الله ذاته ‘‘لأنه
بإرادته و مسرة أبيه و الروح القدس أتى و خلصنا’’ (ثيوطوكية الثلاثاء: المرد
المتكرر بعد كل قطعة) فالثالوث كله اشترك في خلاص الإنسان و إن كان
اقنوم الابن قد احتل المساحة الاكبر في التسبحة باعتبار أنه هو الذي تجسد. فتكلمت التسبحة
أولاً عن دور الآب السماوي ‘‘افرحوا
وتهللوا ياجنس البشر لأنه هكذا أحب الله العالم. حتى
بذل ابنه الحبيب عن المؤمنين به لكي يحيوا إلي الأبد[2].لأنه
غُلبَ من تحننه وأرسل لنا ذراعه[3]
العالية.’’ (ثيوطوكية
الأثنين: القطعة الخامسة). و هنا نرى
جيدًا نظرة الكنيسة للآب كمحب غلبه حنانه وحبه و جعله يشفق على الإنسان البائس و
يسر بخلاصه دون حقد او انتقام فلم يبخل على الإنسانية حتى بابنه الوحيد و قد
استخدمت الكنيسة اللفظ رغم جرأته لتنفذ إلى عمق شخصية الله الآب كمحب للبشر. و
أيضًا اهتم الآب أن يصنع لابنه مسكنًا هو القديسة مريم العذراء ‘‘الآب صنعك’’
(ثيوطوكية الأربعاء: القطعة الثالثة)
وصارت مريم ‘‘الخدر الطاهر الذي للخَتَن النقي’’ (ثيوطوكية الاربعاء:
القطعة الأولى).
ثم تقدمت التسبحة لتشرح
دور الابن في هذا الخلاص : ‘‘بينما آدم في حزنه. سُر الرب أن
يرده إلى رئاسته (رتبته الأولى). أشرق جسديًا من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا’’
(ثيوطوكية الاثنين: القطعة الأولى). و ليس آدم فقط بل حواء أيضًا ‘‘تحنن الرب من قِبَل محبته للبشر وُسرّ مرة
أخري يعتقها.’’ (ثيوطوكية
الأثنين: القطعة الثانية) .
و تمضي التسبحة واصفة أحداث الخلاص ‘‘لأن غير
المتجسد تجّسدَ. والكلمة تجسم وغير المبتدئ ابتدأ. وغير الزّمني صار زمنياٌ.غير
المُدرَك لمسوه و غير المرئي رأوه. ابن الله الحي صار ابن بشر بالحقيقة.[4]’’ (ثيوطوكية الأربعاء: القطعة
السابعة). بل و قد عدت التسبحة ظهور الله في الجسد هو في حد ذاته خلاص لأنه في
ذاته أخذ ضعفات الإنسان كلها و انهى عليها ‘‘ومشى مع الناس
كرؤوف ومحب للبشر حتى خلص نفوسنا بظهوره المقدس.’’ (لبش ثيوطوكية الأربعاء). ثم تؤكد
أن الرب قبل الموت بإرادته لمحبته في البشر ‘‘هذا الذي قبله من
أجلنا بإرادته وحده الواحد وحده. محب البشر الصالح مخلّص نفوسنا. أتى وخلّصنا.’’ (ثيوطوكية الخميس: القطعة
الخامسة). ثم تأتي لنتيجة قبول الموت و الصليب ‘‘يحل زلة آدم و يخلص من هلك. و
يصيره مواطنًا سماويًا و يرده إلى رئاسته (رتبته الاولى) كعظيم رحمته’’ (ثيوطوكية
الثلاثاء: القطعة الرابعة). و أيضًا ‘‘لأنه حلّ الحاجز
وقتل العداوة بالكمال. ومزّق كتاب يد (صك)
العبودية التي لآدم وحواء وحررهما.’’ (ثيوطوكية الاثنين: القطعة السابعة). , و ‘‘صار تطهيرًا
لخطايانا و غافرًا لآثامنا’’ (ثيوطوكية الأحد القطعة الثالثة) و ‘‘من قبل
رش دمه طهر المؤمنين، (وجعلهم) شعبًا مبررًا[5]’’
(ثيوطوكية الأحد القطعة الأولى)،و بذلك
أعلنت التسبحة أن المسيح له المجد ‘‘شمس البر
و لدتِه [أي العذراء] و شفانا من خطايانا’’ (ثيوطوكية الأحد: القطعة
الخامسة) و لكن في نفس الوقت تؤكد التسبحة أن الخلاص لم يقف فقط عند الصليب بل
امتد لتمجيد الطبيعة البشرية بالقيامة ‘‘من قبل صليبه و قيامته المقدسة رد
الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس’’ (ثيوطوكية الجمعة: القطعة الخامسة) و بذلك أنقذ
الابن الإنسان من يد الظالم غير الرحوم[6]
و‘‘ صار آدم الثاني من اجل أدم الإنسان الأول’’ (ثيوطوكية الأربعاء: القطعة
الخامسة)، و تستمر التسبحة بنفس الشكل في كل الحانها تؤكد الخلاص و رجوع الإنسان
إلى حضن الله. و بتجسد ابن الله تحول الصليب من كونه "عقوبة" إلى علامة خلاص
و نصرة و غلبة على الأعداء، و الوحوش، و النار، و الشياطين، و الأمراض و هو ما
يوضحه (لبش ثيوطوكية الجمعة) .
ثم تأتي التسبحة إلى دور الروح القدس
في الخلاص و الذي تمثل أولاً في الموافقة على خلاص الإنسان و السرور بذلك. ثم بعد
ذلك الاشتراك في تكوين جسد المسيح في بطن العذراء ‘‘الروح القدس حل عليك’’ (ثيوطوكية الأربعاء: القطعة الثالثة). بل و
يوجد الدور الأعمق وهو توحيد البشرية بالابن المتجسد و صب الحياة الإلهية في
الكيان الإنساني بعدما أخذ الله الحياة البشرية لنفسه‘‘هو أخذ
جسدنا وأعطانا روحه القدوس و جعلنا واحدًا معه من قِبَل صلاحه[7].
هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. نسبحه ونمّجده ونزيده علوًا.’’ (ثيوطوكية الجمعة: القطعة
الثالثة).
العذراء
مريم و الخلاص :
في ثيوطوكية الثلاثاء نرتل قائلين‘‘السلام
للتي أعطت الخلاص لآدم و حواء’’ (القطعة الثالثة). السيدة العذراء مريم لم
تُصلب من أجل جنس البشر بل أعطتهم الخلاص إذ أعطتهم المخلص نفسه . و صارت بذلك
حواء الجديدة[8] ‘‘أم جميع الأحياء’’ (ثيوطوكية
الثلاثاء: القطعة الثالثة). و تشرح
التسبحة هذا الدور في مقارنة جميلة ‘‘يا لعظم الأعجوبة
أخذ الضلع من جنب آدم. وجُبلت منه امرأة. كل عجينه البشرية أعطتها بالكمال لله الخالق وكلمة الآب.’’ (ثيوطوكية الخميس: القطعة السادسة). فهي التي
اعطت للمسيح عجينة بشريته كما أعطى آدم حواء أصلها البشري و كأن التسبحة تريد أن
تقول لقد ردت المراة الجميل للرجل. و ايضًا كما أن البشرية حرمت من شجرة الحياة
بسبب مشورة حواء فإننا بمريم حواء الجديدة ‘‘استحققنا
شجرة الحياة لنأكل منها أي جسد الله ودمه الحقيقين.’’
(ثيوطوكية الخميس: القطعة الثانية) وصارت
لنا ‘‘ينبوع ماء الحياة الذي نبعت لنا منه نعمة اللاهوت’’ (ذكصولوجية
للعذراء في تسبحة نصف الليل). وصارت ‘‘الإناء غير الفاسد الذي لللاهوت، الذي
يعطي الشفاء لكل من يشرب منه’’ (لبش ثيوطوكية السبت) أي انها الينبوع الذي
انتشرت بسببه حياة ربنا يسوع المسيح لكل العالم. و كما أن حواء حكم عليها بألم
الولادة فإن العذراء ولَدَت بـ ‘‘طلقات إلهية ...... بلا ألم’’[9] (ثيوطوكية
الخميس: القطعة الخامسة).
و أخيرًا لا استطيع
إلا ان أسبح ابن الله الذي ‘‘بإرادته و مسرة أبيه و الروح القدس أتى و خلصنا’’
(ثيوطوكية الثلاثاء: المرد المتكرر ). و لا استطيع إلا أن اسبح مع كل الخليقة التي
نالت الخلاص بآدم الثاني بعدما سقطت مع آدم الأول ‘‘أيها النور الحقيقي. الذي
يضيء. لكل إنسان آت إلى العالم. أتيت إلي العالم بمحبتك للبشر وكل الخليقة[10]
تهللت بمجيئك.خلصت آدم من الغواية وأعتقت حواء من طلقات الموت.أعطيتنا روح البنوة
نُسبحك ونُباركك مع ملائكتك.’’ (ثيوطوكية الأثنين: القطعة التاسعة).
[1] ينبغي أن نعي أن الآباء معلمي العقيدة في
رؤيتهم ـ الكتابية و الفلسفية ـــ لله على أنه الخير المطلق لم يناقضوا في
شروحاتهم ظاهر النص الكتابي في استعمال ألفاظ مثل (حُكم، عقاب، دينونة ) و لكنهم
استخدموها في إطار رؤيتهم لله كخير مطلق فرأوا فيها ترياقًا لما حل بالبشرية من
موات و لنأخذ على ذلك مثالاً واضحًا من العظة 45 (العظة الثانية على الفصح) للقديس
غريغوريوس الثيولوغوس ‘‘قد غُلِب الإنسان الأول من ضعفه، و سقط من مرتبته. فحُرِم
من شجرة الحياة و من الفردوس. بل و من الله نفسه و اكتسى بقمصان الجلد التي كانت
تشير في الوقت نفسه أنه بدا يحس بكثافة جسد بشريته المتمرد و القابل للموت. و لأول
مرة يعي عيب نفسه و قباحته و عدم استحقاقه فيحاول أن يتوارى من الله. وبالرغم من
ذلك فإنه بهذا قد احرز مكسبًا فحُكِم عليه بالموت و استئصال الخطية أيضًا حتى لا
يبقى الشر فيه مؤبدًا. و بهذا فإن عقاب الإنسان قد تحول إلى رحمة له، فإني
مقتنع أن الله من أجل رحمته يوقع العقاب.’’ (العظة45: 8)
[2] أنظر (يو3: 16)
[3] يوصف كل من الابن
و الروح القدس في التقليد الأرثوذكسي بأنهما ذراعي الله و يوصف المسيح تحديدا
بالذراع العالية أو ذراع الرب المخلصة، و القطعة هنا تتكلم عن الرب يسوع الابن
المتجسد.
[4] هذا الجزء مقتبس
من العظة 38 للقديس غريغريوس الثيؤلوغوس (على الظهور الإلهي، أي ميلاد المسيح).
[5] أنظر (أش52: 15)،
(عب9: 11- 28).
[6] أنظر لبش ثيوطوكية
الأربعاء.
[7] أنظر القديس يوحنا
ذهبي الفم: عظة في ميلاد المسيح . يمكن أن تجدها هنا http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/text0108.htm
[8] المقارنة بين حواء
و العذراء مريم موجودة عند كل من يوستينوس الشهيد في حواره مع تريفو
اليهودي، و أيضًا موجودة عند القديس ايريناوس في كتابه ضد الهرطقات و موجود
عند القديس غريغوريوس العجائبي، أنظر كل هذه النصوص في كتاب العذراء في التسبحة
تأليف الدكتور جورج حبيب بباوي و يمكن ان تجده هنا http://www.coptology.com/?p=183 .
[9] انتشرت في التراث المسيحي
فكرة أن السيدة العذراء ولدت الرب يسوع بدون آلام المخاض.
[10] أنظر مثلا رسالة
القديس اثناسيوس إلى أدلفيوس 3 -4 و ايضًا للقديس كيرلس الكبير كتاب الكنز
في الثالوث 25، 34
تعليقات
إرسال تعليق