عيد الميلاد المجيد

يستمد عيد ميلاد  الابن الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور قيمته اللاهوتية ليس من كونه احتفالا بحدث قد مضي عليه الفي سنة، بل لكونه نقطة فارقة في تاريخ العالم. فالعالم قبل المسيح لم يعد كالعالم بعد المسيح
فلقد غير الرب وجه التاريخ، معدلا بوصلة الزمن في اتجاه الأبدية و مغيرا دورة الوقت عكس عقارب الساعة فبمولده انتهي الدهر(1كو11:10) أي وصل إلي ملئه(غلاطية 4:4).

لقد دخل الله الزمن متأنسا ليدخل الإنسان الزمني دائرة الالوهة اللازمنية. ففي شخص الرب يسوع انغرس جوهر البشر المخلوق غرسا لا يقبل الانفصال في جوهر الطبيعة الإلهية. لقد تدفق تيار الحياة الإلهية في الجسد الميت فقتل الموت إلي غير رجعة، ونقض الطهر الكلي فساد آدم وهو ما ادركته كنيستنا فنطقت به صلاة
"يا الله العظيم الابدي الذي جبل الإنسان علي غير فساد،و الموت الذي دخل إلي العالم بحسد ابليس هدمته بالظهور المحيي الذي لأبنك الوحيد ربنا و إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح"(القداس الباسيلي))

لا يعد التجسد حدثا مضي بل هو حدث مستمر دون انقطاع فالابدية ليس فيها ماضِ ولا حاضر،لقد اتحدنا بيسوع المسيح الإله المتجسد إلي الابد في جسده و دمه المقدمين علي المذبح خلاصا وغفرانا للخطايا وحياة ابدية لكل إنسان.فيسوع الإله يعيش متجسدا في أخوته الاصاغر فهو البكر بين اخوة كثيرين(رو92:8).

كان جسد الرب المتأله باكورة الخليقة الجديدة، فميلاد الرب هو فعليا ميلاد العالم الذي وصل إلي ذروة التدبير الإلهي.
وعت الكنيسة ذلك جيدا فأعدت لأستقبال الرب شهرا كاملا هو شهر كيهك لأستقبال الرب يسوع، و كأن الكنيسة تأخذ في هذا الشهر دور النجم والملائكة المبشرين صارخة في العالم ببشارة الخلاص.
فعلي مدار آحاد شهر كيهك تقرأ الكنيسة الاصحاح الاول من أنجيل لوقا،مبتدئة في الاحد الاول بفصل الانجيل من (لو1:1-25) و الذي يبدأ ب" إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا،كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ، وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ،أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ. "(لو1:1-4)
فالكنيسة تعلن انها من تملك المعرفة و الحياة التي تمكنها من البشارة بالرب فليس هناك من هو أعلم بيسوع  من جسده وعروسه الكنيسة، فهي تخبر كل من هو محبوب من الله(ثيؤفيلوس) ببشارة الخلاص و العتق. ثم بعد ذلك تدخل الكنيسة مع زكريا الكاهن مقدمة ذبيحة صلواتها(بخورها) الي الآب فلقد عاشت عقيمة مثل زكريا حتي انهكها طول الانتظار، فيظهر الملاك واعدا زكريا ومعه الكنيسة بميلاد يوحنا كسابق ليعرفها من هو الاتي و تندهش الكنيسة مع زكريا من قرب وقت الإثمار بعد العقم و تنتظر في صمت كوعد الملاك ظهور ذلك السابق لينير طريقها نحو المخلص.

و في الأحد الثاني تتقدم الكنيسة خطوة أعمق لترينا من هي المستحقة لتكون بابـاَ  يدخل منه الرب إلي عالمنا فتقرا (لو1: 26- 38) وهو الفصل الذي يحوي بشارة العذراء مريم بالحبل البتولي و تقف متعجبة معها فالمخلص الذي انتظرته الامم و الاجيال هو الله الخالق ذاته وليس آخر،
و تتقبل الاعلان انها منذ الآن ستصير محل سكني روح الله الذي يصنع للابن الوحيد جسدا منها ولتستأهل أن تكون محلا لسكناه؛ لكنها في خضوع لإرادة الله تقبل كلام المبشر و تقول مع العذراء "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ"(لو38:1).

أما في الاحد الثالث فنجد أن العذراء مريم والدة الإله تذهب لأليصابات نسيبتها لتخدمها مقدمة أسمي مثال للتواضع فهي وهي أم الرب تخدم  أخري،و تترنم الكنيسة بالروح القدس مع اليصابات مديحا و تطويبا للعذراء مريم "نرفعك باستحقاق مع اليصابات نسيبتك قائلين: مباركة أنت في النساء و مبارك ثمرة بطنك"(مرد انجيلي الاحدين  الثالث و الرابع من كيهك)

فترد عليها العذراء مريم بتسبحتها الجميلة و تتهلل الكنيسة مع مع العذراء مبتهجة بالمخلص«تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ،وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي،لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي،لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ،وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ،وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ.أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ.أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ.عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً،55كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ».(لو46:1-55)
تتهلل الكنيسة بقرب مجيء المخلص الذي يذل الشيطان المتكبر ويضع اليهود الاغنياء ليرفع كل محبيه و يغنيهم من لاهوته، فمريم "هي الإناء غير الفاسد الذي للاهوت، الذي يعطي الشفاء لكل من يشرب منه"(ثيؤطوكية السبت) وهي" ينبوع ماء الحياة الفائض من لبنان،الذي نبعت لنا منه نعمة اللاهوت"(ذكصولوجية نصف الليل للسيدة العذراء)
تعلن العذراء مجيء الرب الذي سيعطي الإنسان التأله الحقيقي بنعمة لاهوته،و يذل الشيطان الذي أراد التأله بقدرته الذاتية بعيدا عن الله.
و ينتهي الفصل بذهاب العذراء مريم من عند اليصابات بعد أن وضعت جنينها.

و في الاحد الرابع تقرا الكنيسة فصل الانجيل(لو57:1-80) وهو الفصل الذي يحمل احداث ولادة يوحنا السابق الذي يعد طريق الرب و يكون له روح ايليا الناري ليمهد للرب طريقا بين الوعر و يجهز للرب شعبا مستعدا

"67وَامْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً: 68«مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، 69وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. 70كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ، 71خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. 72لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ،73الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: 74أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ،مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ 75بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. 76وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى،لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. 77لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ،78بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ. 79لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ»."
و بهذا التسبيح تختم الكنيسة شهر كيهك معلنة أن النور قادم لا محالة ليبدد الموت و يعطي لشعبه سلامه.

و تصل ذروة فرح الكنيسة يوم عيد الميلاد نفسه، حيث تصل الكنيسة بقراءات العيد قمة الغني والمعني اللاهوتي؛

فتقرأ في عشية العيد فصل الانجيل الذي يحوي نسب المسيح بحسب ما اورده لوقا(لو 3 : 23 - 38) مبتدأ بيسوع المسيح و صاعدا إلي آدم
و كأن الرب يسوع يقدم اجداده ويحملهم الي الله كأولاد و كأنهم هم من ولدوا منه و ليس هو الذي اتي من نسلهم ، و تقدم الكنيسة يسوع آدم الثاني معطي الحياة للذين ماتوا في آدم الأول.
ثم تقرأ في باكر(يو 1 : 14 - 17) معلنة أن النور الحقيقي قد أشرق  " وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَل(و نصب خيمة اجتماعهَّ) بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً. 15 يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قَائِلاً: « هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي». 16 وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. 17 لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا."

ثم تأتي مع المجوس في انجيل قداس العيد(مت 2 : 1 - 12) الذين اضناهم السفر وجاهدوا جهادا حتي وصلوا إلي حيث يسوع موجودا و كأنها تنطق بكلمات ثيؤطوكية الخميس عن المجوس
"هو واحد من اثنين. لاهوت وناسوت. ولهذا سجد له المجوس. ساكتين وناطقين بلاهوته. قدّموا له لباناٌ كإِله وذهباٌ كملك ومراٌ علامة علي موته المحيى. "
نعم لقد رأي المجوس في طفل المزود إلها فسجدوا مقدمين طقس عبادتهم مع البخور، ورأوا فيه الملك فقدموا له الذهب و قدموا له المر فهم يعرفون ان كل ملك لا بد له من يقاسي المرارة من أجل شعبه ، تتوحد في تلك اللحظة الكنيسة مع المجوس الاممين فهي ايضا كنيسة أممية وليست يهودية مسبحة وعابدة للمسيح.

أسجد لك يا سيدي يسوع المسيح معترفا انك الله الظاهر في الجسديا من
"عزيتني بلبان العلم من قبل روحك القدوس، منطقتني بالقوة وإتخذتني لك مسكناً، صنعت لي وليمة النعمة ومن سم الحية شفيتني وأدوية الخلاص سلمتني لأنه هكذا أيها السيد عندما عدمت نفسي من شجرة الحياة أعطيتني مشتهيات الألوهية،وصيرتني معك واحداً أعطيتني جسدك ودمك ذلك الذي بذلته عن حياة العالم، وسقيتني من ذلك العصير الخارج من جنبك الينبوع الغير المنقطع ينبوع الحياة، تلك المائدة التي فيها شفاء الأمم، يا شمس البر، وقدمتنا لأبيك أبناءاً وعلمتنا أن ندعو أباك أبا لنا ونقول بصوت مرتفع: أبانا الذي في السموات"(قسمة سنوية للابن)



مايكل ميلاد
تدوينة قديمة بتاريخ 
16/12/2011



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس