التيار الديني المستنير .... المسيحية نموذجاً

إن الإنتماء لأي ديانة أو مذهب بدون حسم أساسيات تكوين الشخصية المستنيرة التى تنفتح على الآخر يؤدى إلى الولاء لتيار متطرف يفرز عقلية منغلقة على ذاتها. فالتكتل هو أحد سمات أى ديانة ، إذ أن الرسالة الدينية تسعى لإيجاد علاقة بين الإنسان والله وبين الإنسان وأخيه فى الإنسانية . والتكتل هنا يشبه الرابطة أو القيد وهذا هو معنى كلمة" ديانة " فى اللغة اللاتينية ، فالذى ينتمى إلى ديانة ما يرتبط أو يتقيد بها وبأتباعها . 

وسمة الأتحاد أو التكتل الذي هو السمة المركزية لأى ديانة لها بُعدين الواحد سلبي والآخر إيجابي
،

 البُعد الإيجابي هو أن الديانة تعطي معنى لحياة الفرد وتلحمة فى جماعة تعتنق نفس المعتقدات والآراء ويصبح الفرد منتمي لسياق أعظم وأكبر. فيتحرر الإنسان من العزلة والغربة . ومن هذا الإتحاد أو التكتل تنبع كل الرؤى والآمال وأولويات الفرد ونظرتة للحياة. هذا التكتل يُمارس على محورين ، محور المكان ومحور الزمان . كل ديانة لها مكان فالمسيحية لديها الكنيسة والاسلام المسجد واليهودية المجمع ، ولكل ديانة كتاب معين ، فالمسيحية لديها الكتاب المقدس والاسلام لديه القرآن واليهودية العهد القديم . وقمة المحور الآخر الزمنى يتمثل فى التراث ، فكل ديانة لها تراثها المقدس الذى هو بمثابة إرثها التفسيري الماضيوي والذي يحدد تعليمها ، لذلك هى ترتبط إرتباطاً شديداً بتراثها. وهذا يفسر ميل المتدين للتراث وللقديم وابتعادة عن الحداثة والتجديد والتغيير الجذرى. 

أما البُعد السلبى فهو يتمثل فى الإنغلاقية التى تصاحب عملية التكتل الدينى او الاتحاد الذى أحد السمات الاساسية للدين . فالتكتل فى مكان يفرز الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين لأنهم خارج النطاق المكاني للدين ، وهذا ما نعرفة – على سبيل المثال - من تكتل الديانة اليهودية وإنغلاقها على ذاتها واحتساب أي أحد آخر بعيدا عن نطاقهم المكانى بأنه أُممى أي ليس يهودي. وداخل النطاق الديني تكثر التحريمات والأوامر والنواهي التى يجب ان يخضع لها مَنْ بالداخل ويتضمن هذا تحريم أن يخرج أحد من نطاقهم لينضم إلى دين آخر. هكذا التراث القديم بفضل هذة الإنغلاقية يمنح هوية للمنتمين إليه. فالتكتل يستمر ويتماسك بالإنغلاقية. لذلك هذا التكتل لو انفتح على الآخرين يفقد هويته. بالتالى الإنغلاقية هى ضريبة التكتل والوحدة ، ومَنْ يريد المحافظة على هويته عليه ان يرتضى بهذة الانغلاقية ويحافظ عليها. 

السؤال الذى يفرض نفسه هو، هل المسيحية هى ديانة مثلها مثل أي ديانة بها هذا التكتل والإنغلاقية أم إنها تختلف عن بقية الديانات والمذاهب؟؟؟

 الإجابة تتوقف على معرفة جوهر المسيحية وتعليم المسيح . وكذلك كيفية ممارسة الكنيسة لهذا التعليم :
 هل رسالة المسيح هي لكل العالم؟  هل تجاوب المسيح فى تعاليمه مع خصوصيات الشعب الإسرائيلى لكى تكون له فاعلية؟ بأى طريقة نستطيع أن نتخطى العناصر القومية لشعب معين لكى يكون تعلّيم المسيح مقبولاً لكل الأمم؟ كيف صارت لتربية المسيح ملامح مسكونية جامعة مع أنها انطلقت فى البداية لرد بيت إسرائيل الضال ؟.

 الجدير بالذكر هو أن كل ما يخص عناصر الاختلاف بين الشعوب من جهة الثقافة وطرق التفكير ليست عناصر سلبية من جهة قبول كلمة الإنجيل. فالقلق الوجودى والأزمة الروحية الأخلاقية تجعل الإنسان يغوص في المسائل الجوهرية التي لها ملمح مسكونى، فسؤال بيلاطس للمسيح ، له هذا الملمح المسكونى، إذ سأل المسيح قائلاً: " ما هو الحق" ؟ (يو38:18)، فهناك حاجة إلى أن نتحرر من المآزق التي تنتج من الانحصار في المذهب العقلى لكى يكتسب المرء القوة لطلب النور الذي لا يُطفئ والحق الذي يقود إلى الخلاص. والمسيح تجاوب مع هذا المطلب المسكونى عندما ظهر كمعلّم ومخلّص ليس لشعب واحد فقط بل لكل العالم. 

 ومسكونية تعليم المسيح تتأسس على العناصر الآتية: 


 أ ـ مسكونية رسالته: " كان هو النور الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم " (يو9:1). "وهذه هى الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة " (يو19:3). " مادمت في العالم فأنا نور العالم " (يو5:9). " أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل مَن يؤمن بى لا يمكث في الظلمة " (يو46:12). 

 ب ـ شمولية الهدف من تعليمه: " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3). " إن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل" (أف6:3). 

 ج ـ المسيح مخلّص العالم: "... ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم" (يو42:4). " لأننا لهذا نتعب ونعير لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحى الذي هو مخلص جميع الناس ولا سيما المؤمنين" (1تي10:4). " وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1يو2:2). د ـ إتحاد الكل: " ولى خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغى أن آتى بتلك أيضًا فتسمع صوتى وتكون رعية واحدة وراعِ واحد" (يو16:10). " وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد" (يو12:17). " وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض " (أع26:17). 

 إن العناصر السابقة تمثل محاور مسكونية في تعليم المسيح لأنه: 

 + تجسد لأجل خلاص العالم.
 + صار نورًا ليضىء لكل العالم. + صار هو الحق الذي يحمل كل البشر إلى المعرفة.
 + إستعاد في شخصه وحده الكل. 

  الشركة فى المسيح تحقيق للمسكونية : إن ملكوت الله كشركة يتطلب تعاليم واستلزمات للانضمام إليه مثل أى مجتمع شركة يضع بنيته التي تحدد نظامه: " ليس كل من يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات" (مت21:7، انظر مر47:9، لو21:17). بالرغم من أن ملكوت الله سيأتى بغتة لكن علاماته هى منظورة من لحظة التجسد، من حياة الرب ونشاطه. إن ملكوت الله لا يتطابق مع أي أيدولوجية عالمية لأنه "ليس من هذا العالم".

بتجسد الكلمة، دخل الإنسان في مسيرة إعداد "بالروح القدس" لكى تكون له إمكانية التغيير الوجودي المطلوب للإنضمام لملكوت الله. لكن هذا العمل لا يُنفذ أو يتم على المستوى الفردي لكن تتم " في شركة ". أنتم الذين اعتمدتم قد لبستم المسيح " الأمر الذي يشكل إطار الكنيسة الإجتماعى. الكنيسة كشركة أشخاص لها ملامح واضحة وأهداف وطرق ووسائل حياتية وقيم تعبّر عن هذه الكنيسة.
إن تعليم المسيح مقدَّم للكل بغض النظر عن قوميته أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمى إليها. وهدف هذا التعليم ـ كما قلنا سابقًا ـ تغيير الإنسان لكى ينضم إلى أعضاء ملكوت الله. وهذا يتطلب تربية " فى المسيح" إلى أن "يتصور المسيح" في قلوبنا (غلا19:4). فالمبادئ التي تحكم هذه الشركة وتؤّمنها يضعها المسيح مؤسس الكنيسة ومعلّمها. صار المسيح كآدم الثانى جذرًا للبشرية التي هى مدعوة لأن يصير لها فكر المسيح. والشركة تستلزم من العضو أن يضع "الأنا" في إطار "نحن" بحسب قول بولس الرسول: " وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1كو27:2). لكن في كل الأنظمة الدينية – كما رأينا - نجد تنظيم العلاقة بين الأعضاء لا تعتمد على اختيارات فردية حرة بل تخضع لإجراءات آلية محددة. أما ملكوت الله كشركة أشخاص يؤّمن فرادة الشخص وتميّزه وسط شركة المحبة، ولذا نلاحظ فيها الآتى: 

 1ـ التكتلات الدينية تضع سدودًا وحواجز أمام الشخصية البشرية بدافع مصلحة التكتل. 

 2ـ التكتلات الدينية تعتبر أفراد المجتمع آلات تخدم احتياجات ومصالح التكتل. أما الشركة التى تنتمى لملكوت الله فهى تتبنى حرية الشخص، فهى تريد القبول الحُر للإنسان ولا تؤمن بالإجبار، وهذا نراه في قول العذراء مريم: " هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك" (لو38:1). 

 3ـ هذة التكتلات لا تعطى اهتمامًا للعلاقات الشخصية بل تتبنى نماذج نمطية جامدة نابعة من أيدولوجية دينية ماضيوية . 

أما الإنضمام إلى ملكوت الله فإنه يتحقق داخل علاقة شخصية بين الإنسان والله، وفي إطار هذه العلاقة لا تُقدّم نماذج نمطية جامدة للسلوك أو قوانين معينة للسلوك، لكن تقدّم مؤشرات توجِّه الشخصية لكى تعبّر عن نفسها مسترشدة بالمسيح الذي هو النموذج الفائق فى خدمة البشرية كلها. وبالرغم من ان الرسالة المسيحية تتحرك على محورين المكان والزمان ، إلا أنها لا تحمل إنغلاقية المذاهب الدينية التى تحدثنا عنها فى البداية. المكان بالنسبة للرسالة المسيحية هى كل المسكونة فعندما ندخل الى الكنيسة لا نشعر بمحدودية المكان فللرب الارض وملؤها لدرجة اننا عندما نقف امام هيكل الله نُحسب كالقيام فى السماء وحين نصلى من اجل الكنيسة نقصد تلك الكنيسة الممتدة من اقاصى الارض إلى اقاصيها .

 أيضا التراث الديني أي ما يُسمى التقليد المقدس ليس بالنسبة لنا ساكن او جامد انة "داينمك" إننا نعرف أن نميز الثوابت الإيمانية من المتغيرات التى تتوقف على متطلبات كل عصر. وأجمل شيء فى الرسالة المسيحية هى قبول الآخر وصنع الرحمة والإحسان إليه بغض النظر عن إنتمائة الديني او الفكري او الجغرافي أو اللون او الأصل ، فالرسالة المسيحية تحتضن الكل من منطلق ان كل انسان هو مخلوق بحسب صورة الله ومثالة حتى بعد السقوط، لذلك تَوَاصلَ آباء كنيستنا مع أُناس عصرهم ولم يكونوا يوماً منغلقين. هكذا المسيحية ليست ديانة بالمعنى النمطى المتحجر، إنها رسالة تحررية تؤمن بالحرية والانفتاح على الآخر، لا يمثل لها المكان ولا الزمان عنصران يعيقان إنفتاحها وتحررها . وهذا ما أراد المسيح فى حياتة الارضية أن يقوله ليهود معاصريه، إن السبت لأجل الإنسان وليس العكس، وأن وصايا الناموس كلها توجز فى وصية المحبة نحو الله ونحو الأخ فى الإنسانية .

  وقد يطرح أحد سؤالا هاماً : هل ممكن أن تتحول الرسالة المسيحية إلى ديانة نمطية جامدة مثل أي تكتل دينى؟ 

 نقول للأسف نعم . فكما حّول اليهود دعوة الله لهم الى ديانة متزمتة لعدم ادراكهم رسالة الله جيدا ومحبتهم لذواتهم ، هكذا يمكن ان تتحول الرسالة المسيحية الى ديانة نمطية جامدة تفرز كتبة وفريسيين يبتعدون عن رسالة الحرية والحق . والأمل قائم بان نتحول ونصير أحراراً  ، فإن حررنا الابن بالحق ونلنا التجديد الدائم تصير أذهاننا مستنيرة ، ونمارس ايماننا بحرية ونحتضن الكل بفعل عمل الروح القدس فينا الذى به نصرخ يا أبا الآب . إذن من هذا المنطلق نؤكد على أن التيار الديني المتطرف بعيد جداً عن إحتضان الآخر وقبول كل مستجدات الحداثة البناءة.






دكتور: جورج عوض إبراهيم 
  دكتوراه في العلوم اللاهوتية
باحث بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية
صاحب مدونة كينونيا


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاص كما تشرحه التسبحة القبطية

شروحات و تأملات علي الليتورجيا (صلاة الشكر)

الأصحاح الأول من سفر التكوين ... بين العلم و الكتاب المقدس