مدخل إلي العبادة
مدخل إلي العبادة[1]
تعتبر صلوات العبادة قلب الإيمان النابض و الوعاء الذي
يستوعب نهر الحق الذي اندفق في مواجهة الهرطقات و البدع التي جابهتها الكنيسة هلي
مر العصور. لقد أصبحت صلوات العبادة اليوم في نظر البعض مجرد طمطمات أو تعاويذ
سحرية يتم بواستطها (تحضير المسيح) في الصلاة كما يُحضر الجن لتلبية رغبات الإنسان
علي طريقة (شبيك لبيك) التي نراها في الأفلام. لكن الحقيقة هي علي النقيض تمامًا
فالعبادة في أصلها لا تتمركز حول الإنسان بل تتخذ من الله مركزًا لها ومحورًا.
فنحن لا نعبد الله كي نطلب منه أن يمنع سوء أو يمنح هبة
بل إن العبادة في جوهرها هي اجتماع الناس للحديث مع الله عن نفسه و عن أعماله و
نحن لا نكلم الله في العبادة بكلمات غريبة بل نتكلم معه الله و عنه بكلمته التي
ألقاها لنا علي مر العصور سواء من خلال الكتاب المقدس أو الاستنارة الروحية لآباء
الكنيسة و معلميها في كل عصر. فالعبادة لله هي عبادة خالصة لشخصه في حد
ذاته دون رغبة في شيء آخر حتي و إن تضمنت هذه العبادة بعض طلبات و صلوات من أجل
الكنيسة و حاجاتها فليس محور الطلبة هو الكنيسة بل محور الطلبة هو الله الجوُّاد
فهي تطلب من الله نموًا و صلاحًا لجسد ابنه يسوع المسيح، أي أن العبادة تبدأ من
الله و تنتهي عنده.
و صلوات العبادة هي كائن حي يتفاعل مع الزمان و المكان
دون أن يفقد هيكله الاساسي أو أي من عناصره الأولية. كما ان صلوات العبادة متنوعة
منها الفردي و الجماعي تتناسب مع العامي و المثقف. فمثلا الصلوات التي غالبًا ما
تُمارَس بشكل فردي كصلوات السواعي نجدها في كل الكنائس التقليدية لا تخلو من بعض
عناصر اساسية مثل رشم الصليب و الصلاة الربانية و المزامير و نجد حول هذا الهيكل
الاساسي إضافات مثل الفصول الإنجيلية و القطع التوسلية التي تقال بعد تلاوة
المزامير بل و نجد حتي تغير و تبديل لأعداد و أماكن المزامير حسب الطقوس المختلفة
لكل كنيسة. كما أن الصلوات الجماعية مثل صلوات القداس تشترك في بنية أساسية واحدة
وهي الاستماع إلي كلمة الله ، رواية تاريخ الخلاص ، و كلمات تأسيس السر الأفخارستي
المقدس، لكننا نجد مع ذلك أختلافًا في القراءات و التعبيرات حسب حياة و خبرة كل
كنيسة. بل و نجد خدمات عبادية كاملة موجودة في كنيسة و غير موجودة في أخري. و يمثل
هذا التنوع العبادي اغتناء للروح المؤمنة و تحليقًا للقلب في سماء الروح يذوقه كل
من اشترك في مثل هذه الصلوات و تمتع بمثل هذا التنوع فيها. بالطبع بدأت تلك الصلوات
العبادية متدرجة من البساطة الشديدة إلي ما نراه اليوم من تعقيد و تركيب طقسي و قد
ساعد علي هذا التطور تبحر رجال الله في أعماق الروح القدس كما أن ظهور الهرطقات
لعب أيضًا دورًا كبيرًا في تشكيل هذه الصلوات التي أصبحت تمثل عصارة خبرة الكنيسة
التي تعيشها مع الله كل يوم و أصبحت تقدم شرحًا للإيمان مبسطًا دون اطناب كلامي
فارغ أو تقصير يخل بالمعني.
و أصبح إيمان الكنيسة إيمانًا عباديًا و عبادة الكنيسة
عبادة إيمانية ينهل منها القاصي و الداني
ليكوّن مع الله حياة و علاقة يصبح بموجبها قادرًا
علي إعلان ملكوت الله علي الأرض و تلك هي دعوة الكنيسة و ديدنها مُذ ابتدأ
الرب في تدريب تلاميذه علي التبشير"وَفِيمَا
أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ
السَّمَاوَاتِ."
(مت10: 7) وهي دعوتنا نحن المستوطنين الأرض أن نعلن ملكوت الله للخليقة كلها بعد
أن تحقق داخلنا. و لهذا فالكنيسة تؤمن أن عملها ليس يمتد فقط في مؤمنيها بل أن
أيام غربتها الأرضية تحمل بُعدًا كونيًا يستهدف انعتاق الخليقة كلها ـ العاقلة
منها و الغير العاقلة ـ بيسوع المسيح لمجد الآب و تؤمن أن مهمتها هي نشر الخبر
السار للخليقة كلها "وَقَالَ
لَهُمُ:"اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ
لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا."
(مر16:15) تلك الخليقة التي تئن و تتمخض معًا إلي الآن بانتظار عتقها (أنظر رومية
8).
[1] ما دفعني بالأساس لخوض
غمار البحث في صلوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هو ما قرأته في أحد كتب الدكتورة
مارجريت باركر عن أنه وجدت في الليتورجية الأرثوذكسية الرومية الصورة المسيحية
للعبادة في العهد القديم و في الهيكل اليهودي [وهذا صحيح و أنا لا أنكره] و قررت
أن أقوم ببحث يثبت أن نفس الشيء موجود في صلوات الكنيسة الأرثوذكسية القبطية لا عن
شك في غياب تلك الصورة بل من أجل فهم أعمق لطبيعة الصلاة و أبعادها كما عاشتها و
تعيشها الكنيسة اليوم. لكني وجدت أنه من المتعذر أن انشر بحثًا متصلا منسقًا لذا
قررت أن أنشر كل ورقة بحثية ليتورجية علي حدى. و أرجو من الرب أن تكون هذه الورقات
البحثية شمعة تضيء و سط أمهات الكتب التي أخرجها لنا علمائنا الليتورجيين و علها
تكون إلهامًا لمحبي صلوات الكنيسة أن يسلكوا نفس الطريق.
تعليقات
إرسال تعليق